المهندس أحمد الفيشاوي يكتب .. «الوفرة وخطرها على الأسرة»
من الطبيعي أن يكون للفقر أثر فى توتير الحياة الأسرية ، فالفقر يقطع سبل العيش الكريم ، والحاجة تضيق النفوس ، وضيق ذات اليد قد يولد خلافا موترا للعلاقات الأسرية أو صبرا مرا لايطاق .
لكن غير الطبيعى - والأخطر - أن تكون الوفرة هى الأقدر على هدم البيوت من الفقر نفسه .
فالفقر يختبر جوهر العلاقة ، ويجبر الزوجين على الاحتماء ببعضهما ، فينشأ بينهما ترابط قهرى أحيانا ، وصبر اضطرارى كثيرا ، قد يتبعه رضا بما قسمه الله سبحانه وتعالى.
أما الوفرة ، فإنها تفتح أبواب المقارنة ، وتوقظ شهوة التملك ، وتغرى بتوسيع سقف الحاجيات التى لا تنتهى ، حتى يصبح الرضا عملة نادرة .
ومما يلفت النظر أن القرآن لم يربط الشقاء الأسرى بالفقر وحده ، بل حذر من الانشغال بالمتاع وفتنة السعة قبل فتنة الضيق ، حيث قال تعالى :
" وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ "
فالفتنة هنا ليست في وجود المال ، بل في أثره حين يتقدم على القيم ويزاحم المبادئ السامية .
فمع المال تأتى البدائل والخيارات العديدة : بدائل في العلاقات ، بدائل في أنماط العيش ، بل وبدائل فى الأشخاص أنفسهم .
وهكذا تتحول الأسرة من كيان يقوم على المودة والرحمة - كما وصفها القرآن " وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً " -
إلى مشروع استهلاكى تقاس فيه القيمة بما يُقدَّم لا بمن يُقدِّم ، ويحاسب فيه الطرف الآخر على كمية العطاء لا على صدق العِشرة وجودة العطاء .
إن الوفرة ، إن لم تضبط بقيمة القناعة ، قد تضعف الصبر ، وتقصر المسافة بين الرغبة والتنفيذ ، بين الطلب وتحقيقه ، فتجعل قرار الهدم أسهل من قرار الإصلاح والبناء .
وقد نبّه النبى صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى حين قال : "ليس الغِنى عن كثرة العرض ، ولكن الغِنى غِنى النفس " ، فحين يفتقر القلب ، لن تغنيه خزائن الأرض .
وليس عجيبا أن نرى بيوتا فقيرة متماسكة وقوية ، وبيوتا ثرية خاوية ؛ ذلك لأن الفقر يختبر القدرة على التحمل ، بينما الوفرة تختبر القدرة على الاكتفاء .
وصدق من قال : " كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ . أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ " .
فالاستغناء المادى إذا لم يصاحبه وازع إيمانى قوى ، انقلب طغيانا خفيا يهدم ولا يصلح ، فالخطر الحقيقى إذاً ليس في قلة المال ، بل في غياب القناعة ، وتآكل القيم ، وتحول الزواج من ميثاق غليظ إلى عقد قابل للإلغاء عند أول ملل ، وقد سمّى الله الزواج ميثاقا غليظا ، ليبقى أعلى من نزوات اللحظة وتقلبات المزاج .
ليست المشكلة فى أن نمتلك الكثير ،
بل أن تتملكنا الأطماع اللا محدودة والشهوات اللامنتهية .















