«مصر ضمير الأمة» أيمن عبدالمجيد يكتب: «العراق تستعيد عافيتها»


شتان بين ما رأيته فى بغداد بالأمس القريب، وما رأيته نهاية عام 2011، وليس من سمع كمن رأى رأى العين.
كانت بغداد يومها على بُعد ثلاثة أشهر من استقبال القمة العربية الأولى بعد زوال الاحتلال الأمريكى ظاهريًا، تئن من آلام جراحها، تجاهد لتقول للعالم إنها لاتزال تملك من القوة ما يؤهلها لاستضافة قمة عربية وتأمينها.
كانت قمة 27 مارس 2012 الثالثة والعشرون، بعد قمتى 1979، 1990، والتي عُقدت وسط تحديات غير مسبوقة عربيًا وعراقيًا، فالوطن العربى تمزقت دوله الوطنية، ما سمى حينها بالربيع العربى، بينما العراق يجاهد للقفز على نيران الاحتلال والطائفية.
فى قاعة كبار الزوار بمطار بغداد، الخميس 15 ديسمبر 2011، استقبل الأشقاء وفد اتحاد الصحفيين العرب، وهو أول وفد رسمي يزور العراق بعد سقوط بغداد بنيران الاحتلال، ضم الوفد حينها أساتذة كبارًا، برئاسة وأغلبية مصرية.
فلم يكن من السهل حينها قبول دعوة الكاتب الصحفى مؤيد اللامى نقيب الصحفيين العراقيين، فى ظل صورة ذهنية عن انفلات الأوضاع الأمنية، لكن مصر دائمًا ظهير قوى للأشقاء، دولة وشعبًا، ترأس الوفد الكاتب الصحفى الكبير إبراهيم نافع رئيس اتحاد الصحفيين العرب، وضم عددًا محدودًا للغاية من النقباء والصحفيين العرب.
فى المطار طال انتظارنا سبع ساعات لإنهاء الإجراءات- لم يكن بطء القائمين عليها- بل أغلق الاحتلال طريق المطار، فقد صادف ذلك اليوم مؤتمرًا صحفيًا لإنزال علم الاحتلال الأمريكى عن قاعدة المطار آخر قواعده الرسمية.
فى ذلك اليوم أسدل الستار رسميًا، على حقبة الاحتلال، وبدأ العراق تضميد جراحه، سعيًا إلى استقلال حقيقى، يومها قال وزير الدفاع الأمريكى ليون بانيتا إن الولايات المتحدة الأمريكية ملتزمة بالبقاء إلى جانب العراق إلى ما لا نهاية.
وأضاف مخاطبًا جنوده وقادة جيش الاحتلال الأمريكى فى القاعدة العسكرية قرب مطار بغداد الدولي: “نحن لنا الشرف بأننا أنجزنا المهمة التي بدأناها فى العراق بنجاح”.
لكن الحقيقة الاحتلال هُزم فى العراق، وبات غير قادر على دفع مزيد من فاتورة دماء جنوده، فقد اعترف “بانيتا” فى سياق حديثه الذي تناقلته وسائل الإعلام: أن أكثر من مليون جندى أمريكى خدموا فى العراق، بلغ عدد القتلى منهم 4500 قتيل وأكثر من 30 ألف جريح.
يومها وصف بانيتا قتلاه وجرحاه بـ”الضحايا” زاعمًا أنهم ضحوا «من أجل تحقيق عراق آمن ومزدهر، ليكون العراق فى النهاية هو المسؤول عن سلامته”.
لم تمر سنوات حتى خاض العراق حربًا شرسة، فى مواجهة الإرهاب من دواعش وعلى الجانب الآخر أذرع القوى الإقليمية، سعيًا لاستقلال القرار والعودة للأمة العربية.
فى الطريق إلى فندق الرشيد بالمنطقة الخضراء، الأكثر تحصينًا أمنيًا فى ذلك الحين، كانت آثار المعارك على طريق المطار لا تزال شاهدة على حجم تضحيات الشعب العراقى، بينما الطرقات تحولت إلى ممرات بين جدران من الكتل الخرسانية، تحمل آثار القذائف والطلقات النارية التي خلفتها الاشتباكات، فيما تناثرت أشلاء الكثير من البنايات بفعل دانات المدافع وقذائف الطائرات.
وعلى مسافات متقاربة، داخل جيوب الكتل الخرسانية على جانبى الطريق، كانت ارتكازات أمنية ترفع على المدرعات رايات طائفية مذهبية، تُنبئ بسيطرة طائفة وتحذر من مخاطر الحرب الأهلية التي خطط لها الاحتلال وأعداء العراق؛ للحيلولة دون تضميد جراحه.
فى فندق الرشيد، بالمنطقة الخضراء الأقوى تحصينًا، نزل الوفد، كان يسكنه نواب البرلمان، الذين يضطرون للذهاب لجلسات مجلس النواب عبر نفق يربط المؤسسة التشريعية بالفندق، فلم يكن من اليسير عليهم التنقل بضع مئات الأمتار من وإلى البرلمان فوق الأرض، لخطورة الوضع الأمنى.
بعد 14 عامًا من زيارتى الأولى كانت زيارتى الخامسة لبغداد، ظهر الخميس 15 مايو الجارى، لتغطية فعاليات القمة العربية الرابعة التي يستضيفها العراق، وشتان بين بغداد 2011 وبغداد الآن.
من الوهلة الأولى تلاحظ تلاشى مظاهر الطائفية التي كانت، فلا رايات مذهبية بل علم العراق يرفرف على الارتكازات الأمنية التي نادرًا ما تراها فى إشارة لا تخطئها عين إلى تحسن الأوضاع الأمنية.
طريق المطار تنامت بنيته التحتية، عادت المساحات الخضراء، اختفت مخلفات القتال، العمران الحديث يتكاثر على جانبى الطريق، منشآت حديثة يُجرى تشييدها، مجمعات سكنية، جسور أكثر حداثة، الشوارع تنبض بالحياة، يمكنك أن تتجول بمفردك بلا أدنى قلق.
البنية التحتية للفنادق تعاظمت، لم تعد وحدها المنطقة الخضراء آمنة، بل اتسعت مساحات الأمن والتنمية والعمران، شارع المتنبى الذي شوهته الانفجارات فى السابق استعاد رونقه الحضارى، مقهى الشهبندر سابقًا “الشهداء حاليًا” عاد يحتضن رواده من المثقفين والزائرين.
بغداد حمدًا لله على سلامتك
جاهد العراق لعبور نفق الصراعات المذهبية، وتضميد جراح الاحتلال، واقتلاع الإرهاب من جذوره، سعى لأمته العربية، استضاف القمة الرابعة والثلاثين، فى لحظة من أخطر ما يواجه الأمة العربية.
لم يكن الأمر يسيرًا، فلا يزال هناك من يسعى لخلق معوقات تحول دون الاندماج العربى الكامل، فلم يكن منطقيًا أن تصدر المحكمة الاتحادية حكمها بإلغاء اتفاقية خور عبدالله المنظمة للملاحة مع الشقيقة الكويت، قبل القمة بفترة وجيزة.
العراق من سعى لإلغاء الاتفاقية يرى أنها فرضت على العراق فى فترة احتلال، والكويت ترى أن ذلك يعكس نوايا غير إيجابية، والخليج تضامن مع الكويت.
ربما هناك إقليميًا من أراد أن يعيق نجاح القمة، والحد من انخراط العراق فى محيطه العربى، وقد يكون هناك من سعى للحد من نجاحات رئيس وزراء العراق محمد شياع السودانى، الذي حقق نجاحات كبيرة تنموية واستعاد الأمن والاستقرار، خاصة أنه يقود ائتلاف الإعمار والتنمية لخوض الانتخابات البرلمانية العراقية المقرر لها نوفمبر المُقبل.
كان من الواجب على قادة الدول العربية، أن يجعلوا من نجاح قمة بغداد هدفًا قوميًا، فكل خطوة تقرب العراق من حضنه العربى، يجب أن تقابل بخطوات أوسع وأسرع، فضلًا عن التحديات الجسام التي تواجهها الأمة العربية، وقضيتها المركزية “فلسطين”.
مصر ضمير الأمة
فى ظل هذه التحديات غير المسبوقة، التي تواجهها الأمة العربية، تواصل مصر مواقفها التاريخية بكل شرف وأمانة، ينطق زعيمها الرئيس عبدالفتاح السيسي بلسان مصري عربى قومى مُبين، مُعبرًا عن مواقف مصر وضمير الأمة.
حضور الرئيس عبدالفتاح السيسي القمة العربية ببغداد، حال دون فشل انعقادها، فى ظل ضعف التمثيل- غير المبرر- على مستوى قادة الدول.. حضور مصري قوى ورسائل بليغة لا تخطئها عين.
ذكر الرئيس السيسي فى كلمته، أن القمة العربية تعقد فى ظرف تاريخى، تواجه فيه منطقتنا تحديات معقدة، وظروفًا غير مسبوقة، تتطلب منا جميعًا - قادة وشعوبًا - وقفة موحّدة، وإرادة لا تلين، وأن نكون على قلب رجل واحد، قولًا وفعلًا، حفاظًا على أمن أوطاننا، وصونًا لحقوق ومقدرات شعوبنا الأبية.
قالها الرئيس عبدالفتاح السيسى، وفعل، واجه مخطط تهجير الفلسطينيين، وتصفية القضية، دعم العراق، ودفع باتجاه إنجاح القمة العربية، دعا القادة العرب إلى إعلاء مصلحة الأمة فوق أى اعتبار.
ذكّر الرئيس السيسي بما فعلته مصر منذ السابع من أكتوبر 2023، لوقف نزيف الدم الفلسطينى، وما بذلته من مساعٍ مضنية لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع، مطالبًا المجتمع الدولى وعلى رأسه أمريكا باتخاذ خطوات حاسمة لإنهاء هذه الكارثة الإنسانية.
ذكر الرئيس السيسى، رسالة العرب للعالم فى القمة العربية الطارئة، بالقاهرة مارس الماضى، التي رفضت التهجير وأقرت خطة التعمير دون تهجير، وأكدت أن إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية هى السبيل الأوحد للخروج من دائرة العنف.
قدم الرئيس السيسي تشخيص مصر لتحديات الأمة و”روشتة العلاج”، فلسطينيًا:
ذكّر الرئيس بتعرض الشعب الفلسطينى، لجرائم ممنهجة وممارسات وحشية، على مدار أكثر من عام ونصف العام، تهدف إلى طمسه وإبادته، وإنهاء وجوده فى قطاع غزة.
شخّص الرئيس السيسي المأساة، حول تعرض القطاع لعملية تدمير واسعة، لجعله غير قابل للحياة، فى محاولة لدفع أهله إلى التهجير، ومغادرته قسرًا تحت أهوال الحرب.
فلم تبق آلة الحرب الإسرائيلية، حجرًا على حجر، ولم ترحم طفلًا أو شيخًا، واتخذت من التجويع والحرمان من الخدمات الصحية سلاحًا، ومن التدمير نهجًا، ما أدى إلى نزوح قرابة مليونى فلسطينى داخل القطاع، فى تحدٍ صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية.
وفى الضفة الغربية، قال الرئيس السيسي: لا تزال آلة الاحتلال، تمارس ذات السياسة القمعية من قتل وتدمير، مضيفًا: ورغم ذلك يبقى الشعب الفلسطينى صامدًا، عصيًا على الانكسار، متمسكًا بحقه المشروع فى أرضه ووطنه.
وهنا يقولها الرئيس السيسي لقادة العالم والدول العربية بكل وضوح: “حتى لو نجحت إسرائيل، فى إبرام اتفاقيات تطبيع مع جميع الدول العربية، فإن السلام الدائم والعادل والشامل فى الشرق الأوسط، سيظل بعيد المنال، ما لم تقم الدولة الفلسطينية، وفق قرارات الشرعية الدولية».
ليبيا:
شددّ الرئيس السيسي على أن مصر مستمرة فى جهودها الحثيثة، للتوصل إلى مصالحة سياسية شاملة، وفق المرجعيات المتفق عليها، من خلال مسار سياسى ليبى، يفضى إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة، تُمكن الشعب الليبى من اختيار قيادته، وتضمن أن تظل ليبيا لأهلها، مع خروج كافة القوات والميليشيات الأجنبية من ليبيا.
فى السودان:
شخّص الرئيس ما تمر به الدولة الشقيقة بـ«المنعطف الخطير»، الذي يهدد وحدته واستقراره، ما يستوجب العمل العاجل لضمان وقف إطلاق النار وتأمين وصول المساعدات الإنسانية، والحفاظ على وحدة الأراضى السودانية، ومؤسساتها الوطنية، ورفض أى مساعٍ تهدف إلى تشكيل حكومات موازية للسلطة الشرعية.
عن سوريا:
دعا الرئيس السيسي لاستثمار رفع العقوبات الأمريكية، لمصلحة الشعب السورى، وضمان أن تكون المرحلة الانتقالية شاملة، بلا إقصاء أو تهميش، والمحافظة على الدولة السورية ووحدتها، ومكافحة الإرهاب وتجنب عودة تصديره، مع انسحاب الاحتلال الإسرائيلى من الجولان، وجميع الأراضى المحتلة.
فى لبنان:
شددّ الرئيس السيسى، على أن السبيل الأوحد لضمان الاستقرار فى الالتزام بتنفيذ وقف الأعمال العدائية، وقرار مجلس الأمن رقم 1701، وانسحاب إسرائيل من الجنوب اللبنانى، واحترام سيادة لبنان على أراضيه، وتمكين الجيش اللبنانى من الاضطلاع بمسؤولياته.
عن اليمن:
شددّ الرئيس السيسى، على أن أمد الصراع قد طال، وحان الوقت لاستعادة هذا البلد العريق توازنه واستقراره، عبر تسوية شاملة تنهى الأزمة الإنسانية، التي طالت لسنوات، وتحفظ وحدة اليمن ومؤسساته الشرعية، مع عودة الملاحة إلى طبيعتها فى مضيق باب المندب والبحر الأحمر.
الصومال:
شددّ الرئيس السيسي على الرفض القاطع لأى محاولات للنيل من سيادة الصومال الشقيق، داعيًا كافة الشركاء الدوليين لدعم حكومة الصومال للحفاظ على الأمن والاستقرار.
والملاحظ هنا أن الرئيس السيسي يعبر عن موقف مصر الثابت والصلب المتمثل فى ثوابت الرؤية المصرية:
١- دعم استعادة قوة الدولة الوطنية العربية ومؤسساتها.
٢- دعم الحلول السياسية الشاملة الوطنية التي تعلى من سيادة الدولة وتحول دون أى تدخلات خارجية.
٣- التمسك بوحدة التراب الوطني، ومصلحة الشعوب.
٤- التشخيص الدقيق لتحديات كل دولة تشهد أزمات والعمل على تقديم العلاجات الجذرية.
٥- وضوح الرؤية وقوة المواجهة فلن تسفر محاولات إسرائيل إبرام اتفاقيات تطبيع عن سلام ما لم يحصل الشعب الفلسطينى على حقه المشروع فى إقامة دولته المستقلة.
ستظل مصر وقيادتها ضمير العروبة الحى.
حفظ الله مصر والأمة العربية
======
نقلاً عن جيدة روزاليوسف