19 مارس 2024 10:00 9 رمضان 1445
دنيا المال
رئيس التحرير إيهاب عبد الجواد
مقالات

الأبعاد  القانونية  لاتفاقية تعيين الحدود البحرية بين اليونان و ايطاليا علي دول شرق المتوسط )

دنيا المال

 تشهد منطقة البحر المتوسط تطورات متسارعة من شأنها تغيير قواعد اللعبة المتعلقة بالبحث و استغلال الثروات الطبيعية  خصوصاً فيما يتعلق بمصادر  الطاقة، حيث وقعت (اليونان وإيطاليا)، في التاسع من شهر يونيو الجاري ، اتفاقية لتعيين حدودهما البحرية، وسط توتر في منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​بشأن تعيين المناطق الاقتصادية الخالصة لبعض دول المنطقة ، و بالتالي محاولات هذه الدول و سعيها للحصول علي الصلاحية القانونية في استغلال الحقوق الاقتصادية المقررة قانونا بصورة سيادية و مانعة ، وذلك من خلال التوافق علي تعيين وتحديد الحدود البحرية المشتركة بين هذه الدول ، باعتبار ذلك إلتزاما قانونيا آمرا على تلك الدول قبل الشروع في عمليات البحث والتنقيب عن الثروات ، رغم  وجود العديد من التحديات والعقبات التي تواجه دول شرق المتوسط في تحقيق هذه الأهداف  .

و من هذه العقبات عدم انضمام دول (اسرائيل و سوريا و تركيا ) إلي اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام ١٩٨٢ ، باعتبارها المظلة و المرجعية القانونية الحاكمة لكافة استخدامات البحار و المحيطات و من بينها تعيين الحدود البحرية المشتركة  ، ومن هذه العقبات ايضا وجود  خلاف بين (لبنان و اسرائيل)  حول منطقة بلوك ٩ ، فضلا عن  التحديات و   الانتهاكات  التركية الخطيرة المستمرة في شرق المتوسط بقصد    فرض  سياسة الامر الواقع ، من خلال  الاعتداء والسيطرة بالقوة  علي مساحات بحرية واسعة  من اليونان وقبرص  بذرائع قانونية واهية لا سند لها في القانون الدولي للبحار  .

ومن ناحية اخري نجد ان  الاتفاق بين (اليونان و ايطاليا ) و الذي وقع عليه وزير الخارجية اليوناني نيكوس دندياس، ونظيره الإيطالي لويجي دي مايو، يمثل خارطة  لتعيين و تحديد للمنطقة الاقتصادية الخالصة بين البلدين في البحر الأيوني، بما يعني طي صفحة الخلاف بينهما ، كما  يعد  الاتفاق رسالة واضحة لأنقرة بشأن بطلان اتفاق سابق عقده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الليبية، في نوفمبر  2019 لترسيم الحدود البحرية المزعومة بين (تركيا وليبيا).

ومن الجدير بالذكر أن ( الاتفاقية اليونانية  - الايطالية ) تأتي في الوقت الذي تشهد منطقة شرق المتوسط مواجهات بين (اليونان وتركيا ) بشأن حقوق التنقيب عن الغاز الطبيعي في البحر المتوسط، و تعكس  في ذات الوقت تحولاً في الموقف الإيطالي من الأزمة في ليبيا.  في ضوء تعقد التفاوض بين اليونان و ايطاليا والذي امتد إلي  40 عاماً للتوقيع على الاتفاق مع إيطاليا ، وتحديدا منذ عام ١٩٧٧ ، وذلك علي أثر الخلافات البحرية حول وضعية  العديد من الجزر البحرية .

 كما يبين لنا أن (الاتفاقية اليونانية الايطالية ) تمت  صياغتها وفقا للأحكام القانونية التي وردت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS)،  والتي نصت علي توافق الدول المتقابلة و المتلاصقة في الحدود البحرية علي تعيين الحدود البحرية المشتركة بينها ، علي وفقا لقواعد القانون الدولي و العدل و الانصاف ،  واحقية  الجزر البحرية  في امتلاك مناطق بحرية  متمثلة في المياه الإقليمية ، المنطقة المتاخمة ، المنطقة الاقتصادية الخالصة  ، الجرف القاري ، كما استند الاتفاق بين  اليونان و ايطاليا الي اتفافية الجرف القاري  الموقعة بينهما  في عام ١٩٧٧ ، بما يمهد  الطريق أمام اليونان وإيطاليا لاستكشاف  و استغلال الثروات وعلي رأسها مصادر الطاقة  ، وقد خلصت قواعد القانون الدولي للبحار و أحكام المحكمة الدولية لقانون البحار ، و أيضا محكمة العدل الدولية علي ان تعيين الحدود البحرية المشتركة ليس عملا انفراديا تقوم به الدولة من تلقاء نفسها ، بل يجب أن تتفاوض مع الدول المتقابلة و المتلاصقة معها في الحدود البحرية ، بل يجب عليها احترام وجهة نظر باقي الدول ، و من ثم فلا يجوز للدول الساحلية القيام بأعمال البحث و التنقيب عن الثروات قبل التوافق مع الدول المشتركة معها في الحدود البحرية علي تعيين و تحديد تلك الحدود.

 

 - ويمكن القول بأن توقيع الاتفاق اليوناني الايطالي لتعيين و تحديد الحدود البحرية المشتركة بينهما،   جاء مستوفيا لكافة الشروط والأحكام الإجراءات و الموضوعية لصحة و سلامة الاتفاقيات الدولية سواء وفقا لأحكام (اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الدولية لعام ١٩٦٩ )، أو (اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام ١٩٨٤ )، بعدما توافقا البلدان حول تحديد  خطوط و نقاط الأساس المحددة لحدودهما البحرية ، وفق الخرائط و الإحداثيات الجغرافية و الفنية ذات الصلة،  بما يمثل نموذجا لعلاقات حسن الجوار و مبدأ حسن النية في التعاملات الدولية  ، وذلك علي غرار الاتفاقية التي وقعتها (جمهورية مصر العربية و دولة قبرص)  في عام ٢٠١٣ ، والتي تم بموجبها تعيين الحدود البحرية المشتركة بينهما .

يعد توقيع الاتفاقية بين اليونان و ايطاليا حول تعيين الحدود البحرية المشتركة بينهما  ، علامة فارقة في مجال التعاون بين دول البحر المتوسط فيما يخص مسائل  تعيين الحدود البحرية  ، من أجل الحصول علي الصلاحية القانونية للقيام بعمليات البحث و  التنقيب عن مصادر الطاقة داخل مناطقها البحرية سواء الإقليمية او الاقتصادية الخالصة،  و بما يحول في ذات الوقت دون نشوب المنازعات الدولية حول تعيين تلك الحدود .

الا انه بجوار هذه  الاثار القانونية العامة لتلك الاتفاقية ، نجد ان  هناك مجموعة من الأبعاد  القانونية الاخري  علي عدة محاور  و ذلك علي النحو التالي:

أولا : اهم  الآثار  القانونية المباشرة علي  اليونان و ايطاليا  :

-------------------------------------------

نجد ان توقيع هذه الاتفاقية سيكون من شأنها  توسيع المياه الإقليمية  لليونان على أساس التفاهم المشترك مع إيطاليا ، بعد حسم العديد من نقاط الخلاف بينهما والتي لم تحسم لعدة عقود  ، كما  تعطي الاتفاقية الصلاحية القانونية  لهما بالبحث و التنقيب عن مصادر الطاقة داخل مناطقهما البحرية ، و بالتبعية  الدفاع عن حقوقهما الاقتصادية من اي اعتداء  باعتبارها حقوق تتمتع بحماية  القانون الدولي .

ثانيا : الأبعاد القانونية للاتفاقية  علي اتفاق اوردغان و السراج بشأن تحديد الحدود البحرية  :

 ---------------------------------------------------------------

يمكن القول هنا بأن  اهم الآثار  القانونية  للاتفاقية  تكمن في  تأثيرها المباشر  علي الاتفاق التركي مع السراج بشأن تحديد الحدود البحرية بين تركيا و ليبيا ، و  المخالف للقانون الدولي ، اذ  أن  الثابت ان  الحدود البحرية هي في حقيقتها  امتداد لليابس،  لذلك نجد ان الحدود البحرية بين مصر وليبيا علي سبيل المثال  تمتد  بخط مستقيم من الحدود المشتركة عند مدينة السلوم ، ثم نلاحظ أن هذه الاستقامة في البحر المتوسط قد انحرفت  إلى اليمين بمقدار 180 درجة نحو تركيا، بما يعد مخالفة قانونية واضحة ، فضلا عن أن جزيرة كريت اليونانية  تعتبر عائق طبيعي  بين وجود أي  تقابل مباشر في الحدود البحرية بين تركيا وليبيا ، لذلك نجد ان اليونان ستفرض سيادتها البحرية علي مناطق الجرف القاري لجزيرة كريت بموجب هذه الاتفاقية في مواجهة المزاعم التركية ،   و ستجعل من الناحية الواقعية اتفاق اوردغان مع  السراج هو والعدم سواء،  و سيصبح اتفاق حبر على ورق ، وبما يدلل علي ذلك  ايضا  من مسوغات أسانيد قانونية هي  وضعية اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار باعتبارها من عداد الاتفاقيات الشارعة التي تنص ايضا علي أحكام قانونية في حقيقتها أعراف دولية مستقرة وراسخة تتعلق بمصالح عليا لعموم المجتمع الدولي بأسره عند استخدام البحار و المحيطات ، لا يجوز مخالفة احكامها من اي دولة ،  و من ثم فلا يجوز لتركيا ان تخالف هذه الأحكام  ، كما لا ينال من التزام تركيا بهذه الأحكام عدم انضمامها لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام ١٩٨٤ ، علي اعتبار أن الاتفاقية الأممية  تعتبر آلية قانونية ملزمة لكافة الدول حتي تلك الدول التي تنضم إليها،  بل يمكن  في ذات الوقت التعويل القانوني علي عدم انضمام تركيا علي هذه الاتفاقية الأممية علي الرغم من أنها تطل علي ثلاثة من البحار الدولية ، الأمر الذي يدلل علي سوء نية الجانب التركي و عدم احترامه للالتزامات الدولية الامرة .

وتأسيسا علي ما سبق فإن الاتفاقية اليونانية الايطالية ستؤثر تأثيرا قانونيا سلبيا علي اتفاق اوردغان و السراج   بما يقضي على الأطماع التركية فيما يخص المناطق البحرية لليونان ، وذلك ربطا بالإعلان الصادر عن الاتحاد الأوروبي الذي يدعو إلي احترام دول المتوسط الي احترام قواعد القانون الدولي عند تعيين الحدود البحرية المشتركة  ، وفي ذات الوقت دعم الاتحاد لليونان وقبرص ازاء التصرفات و الأفعال التركية المخالفة للقانون الدولي للبحار .

 

ثالثا : الأبعاد القانونية للاتفاقية  علي مفاوضات تعيين الحدود البحرية المشتركة بين مصر و اليونان :

---------------------------------------------------------

لقد قطعت كل من (مصر و اليونان ) شوطا كبيرا في مجال  التفاوض الفني و القانوني لتعيين الحدود البحرية المشتركة بينهما،  وفقا لقواعد القانون الدولي للبحار ذات الصلة ، ومن ثم فإن اسراع اليونان بتوقيع اتفاقية دولية لتعيين الحدود البحرية مع مصر علي غرار توقيعها مع ايطاليا مؤخرا ، سيكون عاملا إيجابيا هاما من شأنه تمكين   اليونان من غلق  كافة المنافذ امام تركيا ، للقفز علي حقوقها في مناطقها  البحرية ،  وفي ذات الوقت  ستكون  الاتفاقية نموذجا تؤكيد فيه كل من (مصر و اليونان ) علي اعلاء روح التعاون واحترام قواعد القانون الدولي ، و أيضا تمكين البلدين  من إجراء عمليات البحث و التنقيب عن مصادر الطاقة داخل منطقتها الاقتصادية الخالصة و الحق في استغلال تلك الثروات بصفة سيادية مانعة ، و تمكن اليونان من التصدي  للأطماع التركية و  الدفاع عن حقوقها الاقصادية السيادية  في مواجهة اي اعتداء من الجانب التركي .

 

رابعا : الأبعاد القانونية  للاتفاقية بين اليونان و ايطاليا علي مستقبل  منتدي غاز شرق المتوسط  :

 --------------------------------------------------------------

 أعلنت مجموعة من سبع دول في يناير ٢٠١٩ ، و هي دول ( مصر وفلسطين والأردن وإيطاليا واليونان وقبرص وإسرائيل)، إنشاء "منتدى غاز شرق المتوسط"، في القاهرة، بهدف إنشاء سوق غاز إقليمية تخدم مصالح الدول الأعضاء من خلال تأمين العرض والطلب وتنمية الموارد وتعزيز التعاون، حيث تقدر احتياطات الغاز في منطقة شرق المتوسط بنحو 122 تريليون قدم مكعب.

 

 ومن الثابت ان منتدي غاز شرق المتوسط سيكون من النواحي  القانونية  و الفنية  و المؤسسية ،  منظمة اقليمية متخصصة تتمتع بالشخصية القانونية الدولية  ، وتعني  بمجالات الغاز والطاقة لدول شرق المتوسط  ، في ضوء قواعد المنظمات الدولية

و من ثم فإن توافق اليونان و ايطاليا حول تعيين الحدود البحرية المشتركة،  سيعد نقطة انطلاق نحو تسريع  تفعيل آليات عمل   المنتدي ،  وخاصة في حالة توقيع  مصر و اليونان  اتفاقية لتعيين الحدود  بينهما ، بما سيخلق تكتل إقليمي كبير في مواجهة الأطماع التركية . لذلك نؤكد على أهمية توسيع التعاون والتنسيق بين (مصر واليونان وقبرص) على كافة المستويات وبخاصة المجال القانوني لمواجهة الإنتهاكات التركية . 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المستشار الدكتور مساعد عبدالعاطي شتيوي

مستشار بالنيابة الإدارية وعضو مجلس إدارة الجمعية المصرية للقانون الدولي

 

مصر اليونان إيطاليا قبرص السراج أردوغان تركيا ليبيا اتفاقية فلسطين غاز شرق المتوسط الإنتهاكات قانون البحار 1984 البحر المتوسط